تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 161 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 161

161 : تفسير الصفحة رقم 161 من القرآن الكريم

** وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَخْرِجُوهُمْ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهّرُونَ
أي ما أجابوا لوطاً إلا أن هموا بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم, فأخرجه الله تعالى سالماً وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين, وقوله تعالى: {إنهم أناس يتطهرون} قال قتادة: عابوهم بغير عيب, وقال مجاهد: إنهم أناس يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس أيضاً.

** فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
يقول تعالى فأنجينا لوطاً وأهله ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط, كما قال تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} إلا امرأته فإنها لم تؤمن به, بل كانت على دين قومها تمالئهم عليه وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم, ولهذا لماأمر لوط عليه السلام ليسري بأهله أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد, ومنهم من يقول: بل اتبعتهم فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم, والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم, ولهذا قال ههنا {إلا امرأته كانت من الغابرين} أي الباقين, وقيل من الهالكين وهو تفسير باللازم, وقوله {وأمطرنا عليهم مطر} مفسر بقوله {وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} ولهذا قال {فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة من يجترىء على معاصي الله عز وجل ويكذب رسله.
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط, وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصناً أو غير محصن وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله والحجة ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو بن أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وقال آخرون هو كالزاني فإن كان محصناً رجم, وإن لم يكن محصناً جلد مائة جلدة, وهو القول الاَخر للشافعي, وأما إتيان النساء في الأدبار فهو اللوطية الصغرى, وهو حرام بإجماع العلماء إلا قولاً شاذاً لبعض السلف, وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة.

** وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ
قال محمد بن إسحاق: هم من سلالة مدين بن إبراهيم وشعيب وهو ابن ميكيل بن يشجر قال واسمه بالسريانية يثرون (قلت) مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز قال الله تعالى: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون} وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة {قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} هذه دعوة الرسل كلهم قد جاءتكم بينة من ربكم, أي قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به, ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ولا يبخسوا الناس أشياءهم, أي لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس وهو نقص المكيال والميزان وتدليساً كما قال تعالى: {ويل للمطففين ـ إلى قوله ـ لرب العالمين} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد نسأل الله العافية منه, ثم قال تعالى إخباراً عن شعيب الذي يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته وجزالة موعظته.

** وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوَاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثّرَكُمْ وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مّنكُمْ آمَنُواْ بِالّذِيَ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتّىَ يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
ينهاهم شعيب عليه السلام عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} أي تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم قال السدي وغيره: كانوا عشارين, وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} أي تتوعدون المؤمنين الاَتين إِلى شعيب ليتبعوه والأول أظهر لأنه قال {بكل صراط} وهو الطريق وهذا الثاني هو قوله {وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوج} أي وتودون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة {واذكروا إِذ كنتم قليلاً فكثركم} أي كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عددكم فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} أي من الأمم الخالية والقرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله. وقوله {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنو} أي قد اختلفتم علي {فاصبرو} أي انتظروا {حتى يحكم الله بينن} وبينكم أي يفصل {وهو خير الحاكمين} فإنه سيجعل العاقبة للمتقين, والدمار على الكافرين.